نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، رائعة شعرية جديدة بعنوان «عام زايد»، على حساب سموه الرسمي في إنستغرام، أمس، يتغنى ويفاخر فيها بمآثر ومناقب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة وحكيم العرب.
حيث يتحدث سموه في قصيدته العصماء عن شمائل زايد الخير المتفردة وكيف بلغ ذكره الحميد الآفاق قاطبة بفضل ما تميزت به شخصيته القيادية من خلق رفيع ولما قدَّمه من أفعال ومواقف ملآى بقيم وصفات الرجولة والوفاء والشهامة والفروسية..
بجانب قدرته على أن يجمع بين الحكمة وبعد النظر والإخلاص لوطنه وأهله. وأيضاً، يتحدث الشيخ محمد بن راشد في القصيدة عن الكثير من الإنجازات التي حققها زايد الخير، موضحاً أنه موحد الإمارات والمؤسس لنهضتها ومَن حصّنها فجعل منها راسخة البنيان وقوية الحضور في المحافل العربية والدولية..
حتى باتت بفعل ما أسسه وغرسه، رحمه الله، في علا المجد، خصوصاً وأنه ركز على غرس الخلق الرفيع في نفوس أبناء شعبه وحرص على جعل التنمية والتقدم ينطلقان أولاً من بناء الإنسان.. وكذا لم يغفل عن جعل تعليم المرأة والارتقاء بثقافتها في أولوية اهتماماته.
كذلك يبين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في مفردات قصيدته ذات المعاني البليغة والدلالات الثرية، أن الشيخ زايد كان ويبقى مثالاً ونموذجاً رفيعاً للمؤمن المثالي، حيث فهم الإسلام بوجهه الصحيح والسمح وتجلى ذلك بوضوح في طيب خلقه وتعامله وكرمه.
كما يؤكد الشيخ محمد بن راشد في رائعته الشعرية هذه، أن الشيخ زايد هو ضمير العرب الذي مثل نهجه ومساره ومواقفه منارة يهتدى بها في طريق وحدة أمتنا وبلوغها أعلى المنازل. ويُذكِّر سموه أيضاً، بما تميزت به سياسة الشيخ زايد الوسطية القائمة على الحكمة والحصافة، والتي أسس من خلالها الدبلوماسية الراقية لدولة الإمارات، فأهَّلها بهذا لتكون جديرة بالاحترام والتقدير من قبل العالم أجمع.
«زايد الخير» مُلهم القادة والفارس العالم ذو النهج القويم
لا أحد أخبَرُ بحياة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ولا أحد أقدَرُ على الكتابة في سيرة الشيخ زايد، من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، فهو «ابن بجدتها».
كيف لا، وهو الذي يشبه من غير تشبيه ذلك الصحابي الذي حضر الغزوات كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء بغزوة بدر وانتهاء بحجة الوداع، وتلك منقبة تسجل لذلك الصحابي الذي لم يغب عن حضرة الرسول لا سفراً ولا حضراً.
نعم… حضر سيدي الشيخ محمد بن راشد حياة زايد الملحمية ابتداء من عام 1968 الذي جلس فيه المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم يخططان للإعلان عن اتحاد ثنائي بين دبي وأبوظبي، وهذا الحضور منه في ذلك اليوم يشبه هجرة السابقين الأولين التي تذكر لهم كمنقبة.
والشيخ محمد بن راشد في الوقت نفسه يشبّه بأولئك الذين حضروا يوم السقيفة، اليوم الشهير الذي اختير فيه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، أول خليفة في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشيخ محمد بن راشد حضر الاجتماع الثنائي بين زايد وراشد في «سيح سدير» وهما يخططان للإعلان عن أول اتحاد في منطقة الخليج.
وقد أعلن زايد فعلاً قيام أول اتحاد وأول دولة في منطقة ساحل عمان.
وظل شاعرنا الشيخ محمد بن راشد منذ ذلك اليوم يلازم زايد ويبادله الرأي والقصائد إلى أن اختار الله زايد إلى جواره في عام 2004، وكان الشيخ زايد كثير الاعتماد على الشيخ محمد بن راشد، كما أن الشيخ محمد بن راشد كان كثير الاعتزاز والإعجاب بزايد ومن حقه ذلك لأن زايد كما قال المتنبي:
ولستَ مليكاً هازماً لنظيره
ولكنكَ التوحيد للشرك هازمُ
ومن يقرأ قصائد الشيخ محمد بن راشد في زايد يدرك أن زايد كان يشغل حيزاً كبيراً في مخيلته، وأنه كان الملهم الأول له بعد والده، والشيخ محمد بن راشد اليوم هو الأشبه بالشيخ زايد في شمولية أفكاره ورؤاه وعطاياه.
من أجل ذلك لا تتعجب اليوم إذا كتب شاعرنا الشيخ محمد بن راشد قصيدة مطولة كهذه في زايد تكاد يكون عدد أبياتها عدد سنوات عمر زايد، ولعمري إن الحديث عن رجل كالشيخ زايد بن سلطان يحتاج إلى معلقات شعرية فعلاً، بل وإلى مقامات نثرية يتجاوز عدد مقاماتها عدد مقامات الحريري.
والآن تعال واقرأ معي أيها القارئ قصيدة شاعرنا اليوم وهي بعنوان «عام زايد» لتجد:
1-يبدأ الشاعر بقوله:
ذكَـــرتْ زايــدْ وإبـتـدىَ الـوَقـتْ يـرجَـعْ
وشـافـتْ عـيـوني بـوَجـهْ زايــدْ مِـناها
هذا المطلع يوحي بأن الشيخ محمد بن راشد لم يكتب هذه القصيدة على عجل، بل جلس جلسة متأنية، ليستعرض شريط ذكرياته مع الشيخ زايد، وما أكثرها! وكم فيها من المواقف المهمة والمشاهد المشرفة التي يُذكر بها زايد من ذلك اليوم إلى يومنا هذا!
2- يذكر شاعرنا في القصيدة الشيخ زايد وكأنه اليوم جالس أمامه وجهاً لوجه، فيحاول أن يتذكر كل شيء، ويذكر عنه كل صفاته الخَلقية والخُلقية، يذكر مقامه الرفيع بين قومه وعشيرته، ويذكر رجولته وفروسيته وشجاعته.
3- يذكر الشيخ محمد بن راشد إنسانية الشيخ زايد التي تعدت حدود دولة الإمارات إلى المشارق والمغارب، ولم يكتفِ الشاعر بذلك حتى قال عنه إنه كما عرفه الإنس عرفه الجن أيضاً، وقد شهد له بالفضل حتى الحجر الأصم، وهذا غاية في تصوير تأثير أفعال زايد الإنسانية، وإلا كيف استطاع أن يدخل شغاف قلب كل بشر وشجر وحجر.
ولم يصل زايد ذلك المستوى إلا لأنه وهب نفسه لخدمة البشرية أينما وجدت، فكان زايد دائماً ذلك الرجل الذي يقول الشاعر عنه:
إذا قيل من فيكم فتى خلت أنني
عُنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
4- ذكر الشاعر عن زايد أنه كان يملك الحاسة السادسة يتخيل الشيء قبل حدوثه فيستعد له، لذلك كانت له مواقف حاسمة، ويشهد له التاريخ بأنه كان ذكياً جداً وشهامياً جداً وغيوراً جداً ونبيلاً جداً، ولم تكن له مصلحة شخصية في هذا وذاك إلا رضا رب العالمين ومصلحة شعبه.
5- بالرغم من أن زايد لم يكن خريج جامعة إلا أن سياسته تشهد له بأنه كان ذا علم ودراية وكان دائماً في طليعة القادة الذين دان لهم الشرق والغرب لأمرهم وحكمهم، وزايد لم يكن قائداً في محيط بلده بل على مستوى العالم، لذلك فإنه لما توفي وقف له مجلس الأمم المتحدة دقائق صمت، وليست دقيقة، حداداً عليه.
6- بين شاعرنا في هذه القصيدة جانباً مهماً في حياة زايد، وهو أنه لم يكن صلباً فيُكسر ولم يكن ليناً فيُعصر، كما أنه لم يكن ضعيفاً فيُغلب على أمره، ولم يكن جباراً فييأس الناس من عفوه وكرمه، بل كان هيّناً ليناً مع أهل الحق، وشديداً عبوساً على أهل الباطل، ومثل هذه الصفات وجدت في الخلفاء الراشدين.
فأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، على سبيل المثال، الذي عُرف عنه بأنه رقيق القلب بكّاء، وقف يوم توليه الخلافة ليقول: إني وُلِّيت عليكم ولست بخير منكم، إن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوّموني.
وقال أيضاً: الضعيف فيكم قويّ عندي حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله.
7- ذكر الشاعر كرم زايد وسخاءه وقد شبهه مرة بالغيمة الممطرة، ومرة قال عنه إنه أكثر من الغيمة الممطرة، وهذا المعنى الجميل طرقه عدد من الشعراء الأوائل.
8- أحسن الشاعر عندما ذكر زايد بالتواضع، وزايد بالفعل كان متواضعاً باشّاً في وجوه الناس، وقد تواضع مع الله أولاً، فرفع الله مكانته بين البشر، وأقرب مثال لتواضع زايد اليوم تواضع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، بل وتواضع أصحاب السمو حكام الإمارات جميعاً.
نعم… ما رأيت زايد يمنع أحداً من الدخول عليه، بل كان يجلس مع خدمه يستمع إليهم ويشهد سباقاتهم ويفرحهم بالجوائز، وكان كلما تحدث عن الرخاء والعسر شكر الله الذي منّ عليه بهذا المال، وكان يقول: أنا وكيل على هذا المال من قبل رب العالمين، وليس لي حق في أن أمسكه عن الناس.
ومما يذكر أن صحافياً أراد ذات يوم أن يحرجه فقال له: “طويل العمر، أنت أقمت دولة وتجلس على آبار البترول لكن شعبك 85% منهم ليسوا مواطنين، فابتسم وقال: الأرض أرض الله، والمال مال الله، والخلق خلق الله، الّي يجي حياه الله”، فسكت الصحفي.
9- أشار الشاعر إلى دور زايد الرائد في لملمة شمل الإمارات السبعة تحت قبة الاتحاد، ففي عام 1971 استطاع زايد أن يقنع الإمارات السبع بإقامة اتحاد سباعي فيما بين الإمارات السبع، بعد أن تعذر قيام الاتحاد التساعي بين الإمارات والبحرين وقطر.
– وهذا الاتحاد لا شك أنه كان تحدياً كبيراً لزايد الشهم، نظراً للصعوبات التي واجهته أو كانت تنتظره، لكنه أقام دولة وأوجد شعباً تحت علم واحد، ووضع دستوراً يحفظ حدود الدولة والأمن وسلامة هذا الشعب على هذه الأرض، ونظم علاقتها مع الدول في جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة.
10- أشار شاعرنا الكبير إلى أهم قرار اتخذه زايد في ذلك الوقت، وهو إنشاء جيش قوي يحمي الدولة من مطامع العدو، وقد شاء الله أن لا يكون هذا الجيش حصناً حصيناً لدولة الإمارات وحدها بل لكل دولة عربية يعيش على أرضها أشقاؤنا العرب، وأقرب برهان لذلك ما نجده اليوم على أرض اليمن وحدود السعودية، حيث روت دماء شهدائنا الأبرار ميادين البطولة والشرف والكرامة.
11- من صفات زايد أيضاً الصراحة؛ فكان، رحمه الله، صادقاً مخلصاً أميناً مع ربه ومع نفسه ومع أمته، لم يبخل عليهم لا بالمال ولا بالنصيحة والمشورة، والصراحة تدل على نقاء القلب، لذلك فإنه كان مسموع الكلمة.
12-لم يكتف زايد بإقامة الاتحاد الإماراتي فحسب، بل سعى إلى إقناع دول الخليج أن يقيموا اتحاداً فيما بينها، فكان من ذلك قيام مجلس التعاون الخليجي، وكان أول اجتماع له في أبوظبي.
13- أشار الشاعر إلى موقف زايد من بعض الأحداث التي وقعت ومن تلك غزو صدام للكويت الشقيقة، وكان موقف زايد من ذلك الغزو واضحاً، ولم يجامل، ونادى بصريح العبارة: الكويت حرة ومستقلة.
14- لفت الشاعر انتباهنا إلى أن زايد كان زعيماً وطنياً عروبياً من الدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه قائداً إسلامياً من الطراز الأول، لا يرضى باعتداء المسلم على أخيه المسلم، ولا يرضى بالظلم، وكثيراً ما كان يتأثر من مشهد طفل مشرد أو عامل يعيش تحت قسوة الحياة، فبسببه يأمر بإنشاء مدينة سكنية لأجل أن يوفر مأوى ومسكناً لتلك العوائل.
15- الجميل في زايد بن سلطان، رحمه الله، أنه لم يكن يطلق شعارات جوفاء، وإنما كان قولاً وكان فعلاً في آن واحد، ولعل هذا سبب نجاح زايد وسبب دخوله في أعماق نفوس الشرق والغرب والمسلم وغير المسلم.
16- إذا كان زايد فتح قلبه للناس عموماً بحسن نية، فإن ذلك لم يمنعه من أن يعلن عن الحزم في ساعة الجد إذا وجد بعض الناس استغل طيبته، لذلك فإنه كان ضد خيانة الوطن وضد إفشاء الإرهاب بين الآمنين، وكان يحب السلام، وبنى دولة الإمارات على السلام والتعايش مع الكل.
واستفاد في سياسته المرنة تلك من سماحة الإسلام التي دعت إلى الوسطية وحذرت من إيقاد نار الطائفية، فجعل زايد أرض دولة الإمارات واحة الأمن والأمان لكل أبناء العالم، ويسير اليوم أنجاله على ذلك النهج الوسطي العادل.
ولهذه النية الطيبة التي حملها زايد وبنى عليها دولته حفظ الله الإمارات من كثير من الشرور والآفات التي ابتلى بها الكثير من البلاد والعباد.
17- يؤكد شاعرنا ما دعا إليه زايد بأنه هو النهج القويم، وأما استخدام الدين من أجل مطامع سياسية ومكاسب دنيوية فتلك قضية خاسرة، فلا يظن أحد بأنه إذا أطاع نفسه وهواه حصل على مبتغاه، كلا وإن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه.
وبالمناسبة كل الأديان السماوية دعت إلى التوحيد، والإسلام كان دين جميع الأنبياء، لأن الإسلام هو الاستسلام لله تعالى والتصديق بما جاء عنه سبحانه.
ولو تتبعنا عظماء البشر الذين صار لهم أتباع وصارت لهم معتقداتهم الخاصة تسمى ديانة كذا وكذا، فإن أولئك لم يكونوا يحملون الشر في قرارة نفوسهم، فنحن نقرأ عنهم بأن لهم رياضات روحية وصلوات وصيام ودعوا إلى الخير، مما يدل على أنهم استفادوا من هدي الإسلام أو من الدين الحنيفي الذي وجد منذ زمن إبراهيم عليه السلام، فالخير وحب الخير هو المحور الذي يدور حوله العظماء والمصلحون في كل زمان ومكان، والشر هو رحى الأشرار من البشر الذين يتبعون الشيطان.
18- أشار الشاعر إلى بعض الفضائل ومكارم الأخلاق التي احتفى بها قلب زايد وحوّلها إلى حسنات وصدقات جارية تجري كالأنهار هنا وهناك، ومن ذلك: طبعه للقرآن الكريم والكتب التراثية النافعة وفتح المدارس والمستشفيات، وإعطاء الفرصة المتساوية للذكور والإناث.
19- لم تقف إنسانية زايد عند اهتمامه بالإنسان، بل حتى بالحيوان والطير والشجر والجماد، فحوّل الصحراء القاحلة إلى رياض وبساتين وغابات تعيش فيها الحيوانات والطيور حياة مطمئنة.
وقد بلغت رحمته ورفقه بهذه المخلوقات أنه رأى أحد مرافقيه قد اصطاد طيراً في غابة من الغابات التي أقامها في المنطقة الغربية، فقال: ما هذا؟ قال: طير اصطدته لحفيدي، قال: فكرت في حفيدك ولم تفكر أن هذا الطير ربما أمّ لصغار ينتظرونها لكي تلقمهم حشرة من هذه الحشرات، أطلقها تذهب إلى صغارها.
20- في زايد الكثير مما لا يتسع المجال لذكره، لكن الأهم هو عدالته وإنصافه لدرجة أنه رغم حبه لتطوير البلاد وتغيير البشر إلا أنه لم يظلم الماضي، فحافظ على تراث الآباء والأجداد من مقتنيات وعادات وتقاليد وأمثال وقصص وحصون وفروسية وغيرها، ولم تكن ذلك من زايد جعجعة من غير طِحن، بل كانت قرارات ولجاناً ومؤسسات تتبعها جوائز مجزية لكل من قام بعمل نافع أو دور منتج.
ومن حبه للناس وحبه للخير أنه كان إذا خرج في رحلة صيد جلس وقت فراغه يجري سباق جري بين العمال ويقول لهم: من جاء الأول أعطيه جائزة كبيرة، فيركضون وإذا جاء أحدهم الأول أعطى الجوائز للجميع ولم يحرم أحداً.
هذا هو زايد الذي نحتفل به نحن بمئويته، وقد أحسن سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في هذه القصيدة عندما قدم ملحمة تحمل سيرة زايد للأجيال القادمة، فرحم الله زايد وحفظ لنا شيوخنا جميعاً، وأدام الأمن والأمان على بلادنا.
رائعة شعرية نابعة من قلب فارسٍ حُرٍّ معدنه الوفاء ومنبته الكرم
للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان ذكرى خالدة في قلب كلّ مَنْ عرفه أو عاش في ظلّ أيامه السعيدة. وله في قلوب بعض الرجال ذكرى خاصة تتجاوز المجاملات والمناسبات لتصبح هاجساً تهجس به الروح حُبّاً، وغناءً يفيض به القلبُ شعراً ونثراً.
مِنْ بين هؤلاء الرجال الأوفياء صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي لا نعرف فارساً شاعراً تعلّق قلبه بالشيخ زايد كما تعلّق به هذا الشيخ الجليل: حُبّاً صافياً، واحتراماً مُستحقّاً، وإجلالاً منقطع النظير، ولا أظنُّ أنّ أحداً لا يتذكر تلك القصيدة الباهرة التي سمّاها (سيرة المجد)، وجعلها وَقفاً على مناقب الشيخ زايد، رحمه الله، وكتبها بلغة يندر أن يكون لها شَبيهٌ في الحب والوفاء:
وانا على مدح زايدْ داعيٍ جاني
اسمه المودّه وحبّ في شراييني
وزايدْ وداده بنى في القلب بنياني
وزايد قصيدي وأبياتي وتلحيني
ربما كان هذا المَدخل مَدخلاً مناسباً للحديث عن هذه القصيدة الكبرى (عام زايد) التي كتبها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في سياق الاحتفاء الصادق بمرور مئة عام على ميلاد المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الباني المؤسس للدولة، والموحّد الحقيقي للبلاد، والفارس الذي غادر وهو ساطع التوهج، فغادر بجسده وظلّت روحه ترفرف مثل النسر فوق سماء بلاده.. يرشد قادتها وأهلها ويُسدّد مسيرتهم، ويستلهمون ذكراه ويحافظون على إرثه وأخلاقه التي شهد لها القاصي والداني، فهو الفارس المِقدام، وهو شيخُ المدرسة التي تخرّج فيها بُناةُ الدولة وحُماتها، وفي طليعتهم فارسا الدولة وحاملا إرث زايد: المحمدّان: محمد بن راشد، ومحمد بن زايد.
ذكرى لامعة
ذكَـــرتْ زايــدْ وإبـتـدىَ الـوَقـتْ يـرجَـعْ
وشـافـتْ عـيـوني بـوَجـهْ زايــدْ مِـناها
وجْـهِـهْ مـشَـرَّبِ ْ بـالـشَّرَفْ مــا تِـقَنَّعْ
عــنْ حِــرْ كـاشِفْ صـيدتِهْ مـا خـطاها
هكذا جاء طيف الشيخ الحبيب: ذكرى لامعة مثل وجهه الطيب الذي تلوح على ملامحه كل مناقب الفرسان، ففي وجهه يرى (بو راشد) كل ما يريد من أخلاق الرجال الكرام: هذا الوجه المُشرّب بالشرف، صاحب الجبين الوضّاح، الحرّ الذي إذا رمى ما خابت رميته، صاحب الشرف والهيبة التي هي طبيعته وفطرة فطره ربّه عليها.
فــــي حـــزَّةْ الــشِّـدِّهْ أبَـــدْ مــاتـرَوَّعْ
مـنـهْ الـسِّـباعْ تـخـافْ تِـقرَبْ عـشاها
يــالـيـنْ يــتــركْ لأجـلـهـا مـــا تِـقَـطَّـعْ
هــيــهْ الــبَــلاَ يــاغـيـرْ مــنِّــهْ بــلاهـا
والفارس الكامل هو الذي يجتمع فيه الكرم والشجاعة والحكمة، وهكذا كان الشيخ زايد رحمه الله، فهو الجريء المِقدام عند حزة الشدة لا يضطرب قلبه بل يظل الفارس المهيب الذي تهابه السباع حتى تكاد تترك عشاءها رغم جوعها وضراوتها.
صــيـدِهْ مـــنْ أفـعـالِـهْ كـثـيـرْ ومــنـوَّعْ
حــبـرْ وقــطـا وغــزلانْ سَـيَّـلْ دمـاهـا
أوْ ضــبـعْ أوْ ذيـــبٍ مِ الإذيــابِـهْ أكْــوَعْ
وإذا نــــوىَ حــيِّــهْ بــــوادي طــواهــا
والفارس الشجاع الحقيقي هو الذي يكثر صيده ويتنوع بين الحبارى والغزلان والقطا والضباع والذئاب، بل هو قادر على جلب حيّة الوادي التي يتحاشاها الفرسان، ولا يقتصر على قليل الصيد، ولعلّ في هذا البيت مجازاً عن صنائع الشيخ زايد رحمه الله وكثرة صنيعه للمعروف، ولقد كان الشيخ زايد رحمه الله رجلَ حقيقةٍ ومجاز: فهو من فرسان العرب في الصيد الحقيقي، وهو من أكرم فرسان العرب في اصطياد قلوب الرجال بالكرم والمعروف والإحسان..
القيدوم
قـيـدومَـها وراسْ الـرِّجـاجيلْ الأشـجَـعْ
وفـــارسْ فـوارسـهـا وحـامـي حـمـاها
مــواقـفِـهْ لــهـا هـــلْ الـفـهـمْ تِـتـبَـعْ
تَـبـعْ الـدِّلـيلْ إلــىَ الـسَّـلامِهْ هـداها
فهو القائد الشجاع (القيدوم) والفارس المغوار الذي يحمي الحمى ويذود عن حرمة الديار، فما استحق السيادة إلا لما فيه من صفات النبل والإقدام، وعلاوة على ذلك فهو الشيخ الحكيم الذي يجمع بين الشجاعة وأصالة الرأي، فهو الدليل إلى الطريق الآمن في عصر اضطربت فيه المقاييس، حتى أعداؤه يخضعون لسياسته الحازمة التي تكسر عنفوان المعتدي، وتمدّ اليد بالخير لكل من يستحق النوال والمعروف.
ولِـــهْ تـغـيـبْ الـشَّـمسْ وتــردْ تِـطـلَعْ
دنــيـا الــعَـرَبْ عـلـيـهْ تَـعـقِـدْ رجــاهـا
وإذا تــضِـرْ الــنَّـاسْ هـــوُ بَــسْ يـنـفَعْ
نـفـسِـهْ وحـيـدِهْ بـفـعلها ومِـسـتواها
كان الشيخ زايد رحمه الله ملء السمع والبصر، وصيتُه الطيب قد بلغ الخافقين شرقاً وغرباً، وكان العرب يعقدون عليه الرجاء في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، فقد كان رحمه الله كلمة إجماع لا يختلفون بين يديه توقيراً له واعترافاً بحكمته وسموّ أخلاقه، فقد لمسوا الصدق في جوهره، والزعامة المترفعة عن المطامع، فضلاً عن البذل النبيل والمساعدة التي لا مِنَّةَ فيها ولا إذلال، ولا أظنُّ أنّ هناك عربياً أو مسلماً لم تذرف عينه حزناً على غياب الشيخ زايد رحمه الله، فقد كان قمراً للعرب وشمساً للمسلمين، يفرح لأفراحهم ويتوجّع لأحزانهم: سجيةً وفطرة كريمة فطره الله عليها، سقى الله روحه ونوّر ضريحه.
وبـيـنِـهْ وبــيـنْ الـغـيـمْ رعـــدٍ تـقَـرقَـعْ
يـعـطي بِـصَـمتْ وهـيـهْ تـرعِـدْ بـماها
هذا هو الشيخ زايد في قلب بو راشد، نمط متفرد من الرجال، كرماً وعطاء، حتى يتفوق بكرم أخلاقه على الغيث الذي ربما أخلف موعده في بعض السنين، لكن الشيخ زايد رحمه الله ثابت المواسم ويمينه سَخيّة، ولعمري أنّ هذا المقطع من القصيدة ليس مكتوباً بالحبر والمداد، بل هو مكتوب بمداد القلب، فهو حبٌّ كله، وهو مجدٌ كلّهُ، وطوبى للإمارات حين يكون فيها مثل هؤلاء الفرسان أحياءً وأمواتاً.
ويتتابع هذا الغناء الصافي، وكأني بالطرب والحزن والفرح والذكريات كلها قد اجتمعت مثل (خيل الليالي)، تريد أن تقتحم قلب الشاعر كي تفوز منه بذكر في هذه القصيدة الخالدة التي لا تقلُّ عن أروع روائع الشعر العربي، فهي نمط فريد من الجمع بين المديح والرثاء: تطوف بك بين هضاب الذكريات، فيغمرك الحزن على الذكرى الجليلة للشيخ زايد رحمه الله، وتجد نفسك مشاركاً للشاعر في هذه المشاعر الصادقة النابعة من قلب فيّاض بالحب والوفاء:
وإنْ ضـاقتْ الـدِّنيا عـلىَ الـنَّاسْ وسَّعْ
وإنْ شــحَّــتْ الأيَّــــامْ زايــــدْ كـفـاهـا
مــتــواضِـعٍ لــلـنَّـاسْ والــــرَّبْ يــرفَــعْ
لِــهْ مِــنْ تِـواضَـعْ لـلـبِشَرْ مـا إزدراهـا
ومن يملك حين يقرأُ هذا المجد العالي للشيخ زايد، إلا أن يترحّم عليه، ويدعو لأبي راشد بطول البقاء، فقد أبدع في هذه القصيدة التي تقول للناس: إذا كان العظماء يستمدون عظمتهم من جبروتهم وسلطتهم وعساكرهم، فإنّ الشيخ زايد يستمدُّ عظمته من تواضعه وشجاعته وقلبه الكبير الذي وسع الناس جميعاً، فإذا ضاقت الدنيا عليهم اتسعت بجميل فعاله، وإذا شحّت الأيام كفاها بوخليفة رحمه الله: هذا الفارس المتواضع الذي بكاه الناس من أعماق قلوبهم حين فارقهم، لا لشيء إلا لما لمسوه من دفء القلب، ونقاوة الروح، فقد كان يحكم شعبه بأخلاقه، لا بالسيف والسوط.
إشراق وصفاء
مــــلاكْ فـــي إنــسـانْ وأنــبَـلْ وأروَعْ
مــــنْ كِـــلْ رايِـــعْ والــرِّوايِـعْ حــواهـا
ومـشخَصْ ذهَـبْ لـي بالجواهِرْ مرَصَّعْ
أصَفىَ منْ أصفَىَ جوُهِرَهْ في صِفاها
ويزداد الإحساس النبيل بالذكرى الطيبة للشيخ زايد رحمه الله، رقّةً وتدفُّقاً حتى نصل إلى هذا المقطع الذي هو أنعمُ من زرابي الحرير، وأكثر إشراقاً من الذهب الإبريز، وهذا دليل على صفاء القلب الذي يحمل كل هذا الحب، فهو يرى الشيخ زايد ملاكاً في صورة إنسان قد اجتمعت فيه كل المناقب التي يرتقي بها الإنسان عن أقرانه، فكيف إذا كان ذلك الشيخ هو الساعي في توحيد بلاده وجمع كلمتها تحت راية واحدة!
بعد ذلك تدخل القصيدة في واحة من السرد الجميل الذي يحكي قصة مجد الإمارات التي هي من ثمرات السعي الدؤوب لهذا الوالد الحكيم الذي وحّد البلاد وصنع هذا الوطن المهيب، وهو مع فروسيته وكرم أخلاقه مترفّعٌ عن الخداع والغدر وكلمته لا تعرف التلوّن والخديعة:
وزايــدْ مــا يـخدَعْ كـانها الـنَّاسْ تـخدَعْ
وزايــدْ مــايَـغـدِرْ بـالـعِدىَ مــنْ وراهـا
بعد ذلك يلتفت الشاعر إلى بناء الدولة الداخلي وكيف أن الشيخ زايد رحمه الله كان يسهر على راحة شعبه وكيف أنه كتب دستور دولته على العدالة والحق ورفع لواء الخير والنور بحيث أصبحت البلاد مثل اللؤلؤة اللامعة بين الأمم.
هذه بخصوص سياسته، أما أخلاقه وسلوكه الشخصي فهو المرآة الصادقة لعقيدته وتدينه، فالدين عنده للطاعة والعمل، والإسلام هو المنهج الذي لا يحيد عنه قيد أنملة رحمه الله.
الــدِّيــنْ عــنــدِهْ لــطـاعَـةْ اللهْ يِــفـزَعْ
وبـمـنـهَجْ الإســلامْ نـفـسِهْ شـفـاها
إذا سِــمَـعْ لآيــاتْ لِــهْ قـلـبْ يِـخـشَعْ
ودَمــعِـهْ يـبَـلِّـلْ وَجـنِـتِـهْ مـــنْ بـكـاها
لقد آمن الشيخ زايد بالإنسان المتعلم، وأعطى المرأة حقوقها في مرحلة مبكرة من عمر الدولة، وأطلق طاقات شعبه نحو الخير والإنجاز، فكانت الإمارات ثمرة طيبة من غرسه المبارك، فشجّع العلم وافتتح المدارس وارتقى بالإنسان إلى مكانه اللائق به:
آمَــــنْ بــــأنْ الــعـلـمْ واجِـــبْ ونَـــوَّعْ
بــيـنْ الـمـعـاهدْ عَ الـتَّـخَـصِّصْ بَـنـاهـا
وأعـطـىَ الـبناتْ الـحقْ تـدرسْ وتـرفَعْ
صَـرحْ الـوطَنْ مَـعْ سِـترها ومَعْ غطاها
هذا هو الشيخ زايد الذي بنى الإمارات، وانتقل بها من صحراء يلمع فيها السراب إلى جنة خضراء جعلت منها فردوس العرب البهيج، وجعل من شعبها شعباً سعيداً متقدماً معطاء، يحبّ الحياة ويحترم معناها:
حـكـيمْ فــي الإنـسـانْ يـصـنِعْ ويــزرَعْ
يـــالــيْـن دولَـتـنا زَهَــتْ مــنْ حـلاهـا
ومـنْ عـقبْ صحرا وسْطَها اللالْ يلمَعْ
غـــدَتْ لــنـا جــنِّـهْ ومــسـك ٍ ثــراهـا
حلم وكرم
وقد يخطر في بال القارئ أن هذه السماحة وهذا العطاء كان عن غير شجاعة وفروسية، ولا والله بل كان لابن نهيّان عين النسر ومخلب الصقر، ولكنه رجل مجبول على الحلم والكرم، فإذا صرخ الصارخ كان أولَ من يُسرجُ حصانه ويمتطي صهوة الموت والفروسية، وهو ما عبّر عنه صاحب السموّ بقوله:
مــايـعـتريهْ الـضَّـعفْ أوْ يــومْ يـخـضَعْ
إذا الــعَـرَبْ خـــوفْ وتــخـاذِلْ عــراهـا
أما خاتمة القصيدة فقد كانت توكيداً على الرمزية الخالدة للشيخ زايد، فهو ليس ذلك الشخص الذي جاء وغادر، بل هو القائد الباني الذي يجتمع فيه ما تفرّق في غيره من أوصاف الكمال ومناقب الرجال:
زايـــدْ مـــاهـــوُ شـخـصٍ لـفـانا وودَّعْ
زايــــدْ حـكـايِـهْ يـفـتـخِرْ مـــنْ رواهـــا
وتــاريــخْ عــاطــرْ بـالـمـفاخرْ مِـشَـبَّـعْ
مـثـلْ الـكـواكِبْ فـي عـوالي سـماها
وكل ما قاله صاحب السموّ في شيخه وملهمه هو فيضٌ من غيض مما في القلب من الحب الصافي، لكن القلم لا يطاوع، ولا بدّ من نهاية للقصيدة التي هي دُرَّةٌ من درر الشعر الذي يحكي قصة الإمارات مع سيد شيوخها، وباني نهضتها، ونسرها المهيب عليه رحمة الله.
الـمـسكْ مـنـها ومــنْ حـلاهـا تِـضَـوَّعْ
ويــعَـطِّـرْ الـسَّـامـعْ بـطـيـبِهْ شــذاهـا
وأشهد أنّ هذه القصيدة مَجمع الطيوب كلها: من العود للخزامى، وأنها من قلب فارسٍ حُرٍّ معدنه الوفاء، ومنبته الكرم، وطوبى للشيخ زايد رحمه الله بهذا الشعب الذي يفتخر به، وطوبى للوطن بمحمد بن راشد الذي يحتفظ بشعره البديع بأروع ما للوطن من تاريخ ومكتسبات.