في أحد الأيام وعندما وجّه لي الطبيب الوسيم كلماته الرعدية تلك قاطعه ُ صوت الممرضة وهي تقول له: أسِرع دكتور فهناك حالة طارئة بانتظارك في غرفة العمليات، فأومأ لي برأسِه وعينيه وكأنه يقول لي: أرأيت ِ أيتها المكتئبة المدللة هناك غيرك من يقاوم ويصارع المرض ثم مضى مسرعاً كالبرق لأداء وظيفته! بادلته أنا تلك النظرة القاسية بنظرة حزن وإبتسامة أسى، وعندما حلّ المساء وبإقتراب لحظة الغروب خاصةً خرجت من سريري ذي اللون الوردي وفتحت ستائر الغرفة البيضاء بلون الشفاء والتعافي، وأشحت بناظريَّ إلى الأفق، سألت الممرضة إن كان بإمكاني الخروج لأتمشى في الساحة، فأخبرتني لحسن الحظ أن الجرثومة المعدية بدأت بالتلاشي والإختفاء وأنّ بإمكاني الآن الخروج ومقابلة الزوّار بدون أن أسبب لهم الأذى أو العدوى، فرحت لهذا الخبر وارتديت معطفي ورتبت شعري ذا لون خشب السنديان وبدت لي عيناي البُنيّتان بلون البندق تلمعان وكأنّ فيهما نشوة إنتصار ٍ أو لعله حب! تركت هذه المشاعر جانباً متلاشياً النظر إلى بشرتي الشاحبة بلون الليمون الناضج ومضيتْ، قابلت أثناء مسيري مرضى من مختلف الأعمار والأجناس والأعراق، بعضهم يئن وبعضهم يكتم حزنه وبعضهم الآخر الأشد ألماً كان يبكي بمرارة، أصاب الحزن قلبي عليهم ونسيت أنّي فردٌ منهم؛ لعلّي تذكرت أمي وهي تصارع المرض بصبرٍ في هذا المستشفى مثلهم، فقررت الدعاء لهم بصمت وعدم الإلتفات إلى أيٍّ منهم!
يشعرُ المريض أثناء النظر إليه من شخص غريب بأنّه بائسٌ إلى درجة الموت، كما ويجد في نظرة الحزن منهم إليه سهماً قاتلاً مقرّه القلب لا مفرّ منه، كما ويودّ كل منهم بأن تُتاح له الفرصة بإخبارهم أنّه كان يوماً سليماً معافىً مثلهم، يجوب الأرض ويسعى فيها كما الحصان ولكنّه حال الدنيا الأليم يهوي بالإنسان في أشد قيعانها ظلماً ليختبر الله فيها صبرك ومدى شدة إيمانك به سبحانه وبحكمه عليك وقضاؤه وقدره! لذلك يقع على عاتق كل منّا مراعاة الحالة النفسية للمريض وتحويل نظرات البؤس إليه إلى نظرات أملٍ بالشفاء التّام وإن كان ذلك مستحيلاً ولكن ما ذلك على الله بعزيز. فقررت حينها أن لا أنظر إليهم مطلقا وإن صادفت أيّاً منهم فيكفي أن أبتسم لهم بلطف. وصلت إلى الساحة وكان هناك بركة ماء ٍ جميلة انعكست عليها أشعة الشمس البرونزيّة بظلالها الأرجوانية والطيور منها ترتشف بعض الأمل على هيئة حياة وكان إلى جانبها مقعدٌ فارغ فاستقر قلبي بالجلوس عليه ومراقبة السماء وهي تخلق في كل بضع من الدقائق لوحات مختلفة في شدة الجمال، لعلها تأخذ الحزن الأسود من قلبي وترمي به في جوفها الصافي فتحوّله بعظمتها إلى قوس قزح جميل مزدان ٍ بالحياة، جلستُ مغلقاً عيناي رافعاً رأسي قليلاً إلى الأعلى ورحت أسبح في فضاء أحلامي معانقاً نسمات هواء المستشفى ذات رائحة المعقمّات ولكن لا بأس؛ فقد اعتدت هذه الرائحة حتى لأني كنت أشك بأنها تصدر مني ومن ثيابي وشعري حتى أخمص خصلاته! بعد مرور ما يقارب الربع ساعة قاطع سكوني صوتٌ أعرفه ولكنه بدا لي هادئاً جداً على غير عادته، كان صوتاً بنبرة حلوه جداً أكاد أشعر بحلاوتها تعتصر الحب والحزن في قلبي في آنٍ واحد، جاء هذا الصوت مخاطباً إيّاي قائلاً: حسناً أيتها الحالمة إلى أين استقرّ بك التفكير هذه المرّة!! فتحت عيناي وإذ به الطبيب يجلس إلى جانبي ورأسه مرفوع إلى الأعلى يراقب السماء بعينيه العسليتين! فأجبته بنفور: ما الذي تقصده بهذه المرّة حضرة الطبيب، كم مرّة رأيتني أناجي السماء فيها حتى يكون لهذه المرّة معنى مختلف بالنسبة إليك! فأجابني بسكونه المعتاد: هدئي من روعك، لا تقومي بالصراخ سيستيقظ كل من هم في غرفة الإنعاش إذا رفعتِ صوتك أكثر مع إبتسامة ساخرة بعض الشيء، لم أشاهدك في أي من المرات الماضية ولكن يبدوا أنك تجيدين التأمل واحترافك إيّاه لا يختلف عليه إثنين من مجرّد رؤيتهم لك وأنت بهذه الوضعية، عدّلت من جلستي وأجبته بنفور أقل درجة هذه المرّة قائلاً: أعتذر منك ولكن تهيأ لي أنك تعرف عنّي الكثير من سؤالك، أعلم بأن لا شأن لك إلا بالمعلومات الواردة في ملفّي الطبي ولكن تزعجني فكرة أن يقتحم عوالمي الأخرى أيّ شخص آخر؛ فأنا لا أرغب بأن أفصح عنها لأحد ولا لإن يقوم أحد بمحاولة إختراقها وإن كان عن طيب نفس وخاطر!! لا تقلقي أجاب هوَ: فأنا لست مغرماً بإختراق العوالم النفسية للمرضى، يكفيني إختراق أجسادهم وما يمليه عليّ هذا الدور من مسؤولية عظيمة، أومأت برأسي أن صدقت! ثم عدت إلى غرفتي خفيفة الظل والحمِل قليلاً، نظرت إلى نفسي في المرآة فبدا لي وكأنّ خداي قد اكتسبا بعض التورّد في أعلاهما مع أنهما كانا مختفيان أساساً، شعرتُ وكأن كلّ من في الغرفة من جدران وأسرِّةٍ ومغذيّات تناظرني نظرة التعجبِّ والإستغراب! تناسيت كل هذه المشاعر المختلطة ووضعت رأسي على الوسادة الناعمة ورحت أغط في نومٍ إكتائبيٍّ عميق كما المعتاد!
بعد اسبوع بالتمام قدِم إليّ الطبيب وفي يديه أوراق تخريجي الكثيرة وعيناه تتفحصهما بدقّةٍ ناهية، جلس الطبيب إلى الكرسي جانبي، ثم قال وهو ما زال منكّف النظر إلى الأوراق وكأنه يقوم بإلتهامها بعينيه ولا يريد أن يزعجه أحد لكي لا يفقد لذّة المذاق فيها ثم قال: كيف حالك اليوم! أجبته: بأفضل حال والحمد لله، شكراً للسؤال. لا عليكِ أجاب هوَ هذا واجبي! لقد أبليت ِ حسناً خلال هذا الشهر، أتكلم عن صحتك الجسدية لا عن إكتئابك المفرط بالتأكيد، لقد تحسنت لديك قوّة الدم ومعدتك الآن في وضع جيّد جيداً يكفي أن تنتبهي لنفسك ولن تضطري لدخول المستشفى مرّة أخرى بسببها، ثم وقف وقال: عزيزتي المريضة المكتئبة، أعتذر عن تلك المرّة التي أزعجتك فيها وأنت جالسةٌ قرب البركة، سامحيني إن قصّرت معك، لا أعتقد بأنّي أسأت لكِ في مرّة غيرها ولكن أُشهد الله بأنّي أديت ما عليّ من واجب تجاهك، أعلم بأنك ابنة المريضة التي غادرتنا قبل عام، لقد كنت أنا طبيبها لمدة شهرين إلى أن توفاها الله ولطالما كانت تخبرني عنكِ ولكن من طريقة كلامها لم أكد أصدق بأنك أنتِ ذاتها التي كانت تروي لي قصصها، فقد بدا لي من كلامها أنّك أشد تفاؤلاً وإيجابيةً وإبتسامة، وما أراه أمامي الآن منك ومنذ شهر بالتمام عكس ذلك الكلام تماماً، والغريب في الأمر أنّي لم أكن أراكِ إلى جانبها مطلقاً، صدقي بأنه لا يهمني السبب بقدر ما يعنيني أن أخبرك بأنّ عليكِ وإن كنت تحبين والدتك أن تكوني كما كانت تراكِ، فتاة ً قويّةً مفعمةً بالنشاط، الأمل والحب للحياة، بدأت دموعي تتساقط فسلّمّ عليّ الطبيب وأنهى كلامة بابتسامة سحريّه وغادر قائلاً أتمنى أن لا ألقاكِ إلا وأنت بصحةٍ وعافية، مع السلامة مريضتي التي ستصبح متفائلة! ثمّ بدا يسرع الخطى مبتعداً عنّي إلى مهمة جديدة ومريض آخر لعله أكثر تفاؤلاً مني، حملت حقيبتي وأسرعت من ورائه وناديته برفق إلى أن التفت إليّ قائلاً: تفضلي كيف لي أن أساعدك! أجبته بدموع متناثرة هل تسمح لي ببضع من وقتك لو سمحت!! نظر إليّ بلطفٍ وقال: بالتأكيد تفضلي أنا أسمعك، فمشينا إلى البركة وجلسنا هناك حاملة أنا أوراق تخريجي وحاملاً هو اللطف في عينيه!!
بقلم: رنا مروان – ( الأردن )