|  آخر تحديث فبراير 11, 2017 , 20:08 م

فالقلبُ ينحاز ويحنّ إلى موطىء النبض والقدم .. إلى قلب الأم وإن رحل!!


بقلم: رنـا مروان - ( الأردن )

فالقلبُ ينحاز ويحنّ إلى موطىء النبض والقدم .. إلى قلب الأم وإن رحل!!



 

في داخل ِ كل ٍّ منـا يقبع ُ بود ٍّ ذلك الإنسان الذي أحببناه ُ بصدق ٍ منذ النظرة الأولى إليه، منذ الكلمة الأولى التي أوتيت منه ومنذ رعشة الحب ِّ الأولى التي سرَت في دواخلنا توقاً إليه؛

ومنذ اللحظة الأولى التي خرجت ُ بها من من ظلمات جوف ِ أمي الثلاث لأرى نور وجهها الساطع وجمال محيّاها اللذان ِ يخطفان ِ الألباب، وشعرت ُ بحنانها يكسوا فؤادي المُرهف الصغير؛ أيقنت ُ بأنني ومهما اعتلوت ُ في قدْري فلن أبلغ َ المجد َ الا في حظن أمي، ولن ألتقط َ العلا في عمري الا إذا انحنيت ُ لأقبِّل يَدَيْ أمي، ولن أخلد َ إلى الدنا يوماً إلا إذا أشحت ُ بوجهي عن ناظريْ أمي!!

قد تبدوا هذه المشاعر ُ كبيرة حتى يتلُوهَـا طفلٌ حديث الولادة! ولكنني لا أتحدث فقط عن تلك المشاعر التي اعتلتني لحظة خروجي من جوف أمي! وإنمّا أُخبر ُ عن كل تلك المشاعر التي اجتاحتني لحظة أن نفخ الله في روحي وأنا حرٌ أسيرٌ في جوفها؛ حرٌ، بأنني لم أرَ في حياتي سجناً أحن منه عليَّ! وأسيرٌ، بأنني لم أكن أستطيع التكلم بعد ُ حتى أُفشي َ بذلك الحب الذي كان يغمرني لهذا العالم المتأجج من الخارج إلى داخلي.

منذ تلك اللحظة، أي منذ أن نفخ الله في روحي وجرَت معالم الحياة في عروقي وأنا أتيقن يوماً بعد يوم بأنه ومهما تظاهر الإنسان على نفسه وأخذ بلعب دور ِ ذلك السويِّ الذي لا يُفرِّق ُ بين شيئين جميلين ِ في حياته، أو حتى قلبينِ أحبّاه حبّا خالصاً منذ نشأته ِ وتكوّره، فإنه لا يفلح أبدا ومهما حاول ! حتى وإن جرّب شتّى الطرق ليُسرِّبَ به ذلك المبدأ إلى حياته؛ #فالإنسان_بفطرته_ينحاز  !!

ألم يُحب َّ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها حباً جماً عن دون زوجاته رضوان الله تعالى عليهنّ أجمع؟ ألم يرَ فيها حنان الأم؟ ودفى الصديق؟ وجمال روح الزوجة؟ فهذا وإن دلّ على مغزى، فهو أن الإنسان #ينحاز ومنذ الصرخة الأولى؛ #فالقلب ينحاز لمن يهوى، لمن سكنوا  الفؤاد وزادوه نوراً ورضا، لمن آمنوا فينا وبأن في دواخلنا جمالاً لا ينضب وعن النقاء لا يأبى.

أمّا عن قلبي فقد أخبرني بأنه انحاز إلى القلب الذي استضافهُ منذ النبضة الأولى لحجراته ِ الأربع، ذلك القلب الذي شاركه النبض والحياة، كريات الدم الحمراء وجزيئات الأكسجين دونَ تردد أو نقصان، حتى وعندما كنت تلك الكتلة الصغيرة المتكورة على نفسها في جوف أمي، فقد كان دمها المتدفق يعني لي الحب والحياة؛ وكأنها كانت تُحمِّل كريات دمها الحمراء والتي كانت تدور منها إليَّ حاملة ًلي الغذاء لأحيا ولأتمكن من العيش الى حين النضوج الجسدي التام بالكثير من الحب والامـآن في كل نبضة، وكأنها كانت تخبرها أن اذهبي بسلامٍ من قلبي إلى قلب طفلي، أن أخبريه بأنني أحبه وسأحميه، وأن مهما اشتدت به الظلمات فلا يقلق؛ فأنا بنور فؤادي سأضيء عتمة لياليه، وكل جزيء أكسجين كان يقدُم منها كان يجبرني على أن أستنشقه لا لأعيش أنا وحسب! بل لتعيش معي سعلدة أمي.

لطالما كنت ُأرغب بأن أبادلها ذات المشاعر وأن أٌخبرها بمدى سعادتي وأنا في جوفها وأنني لم أقلق يوما ً وهي تحبني ولكنني كنت عاجزا ً عن البوح بكل تلك المشاعر فكنت أواسيها بنبضات قلبي وكم كنت أودٌّ الإعتذار منها عن كل الركلَات ِ التي أحسّت بها مني, ولكنّي لم أركلها يوما ً غضبا أو حزنا ً منها؛ وإنمّا فقط لأذكرها بأنني موجود ٌ معها حتى وإن أزاحت كل ُّ الدنيا وجهها عنها.

وعن آلام ِ ولادتي فـأنا لا يسعُني الشكـر ولا الأسف ولا خالص الحب لأتقدَّم به إليها؛ فقد ذاقت أشد الألام في حياتها وخسرت من عمرها مجهودا ً لم تقوى عليه قط ُّ في زمانها وصارعت الموت من أجل أن تقدم لي من روحها الحياة, وعندمـا خرجت ُ وأطلقت هي آخر تنهيدة من صدرها وبدأ بالتناقص نبض قلبها وبدأت أنفاسها بالعدول إلى صحيح مسارها صرخت ُ أنـأ؛ لا على شدّة ما عانيته من ألم وإنما حزنا ً على كل ِّ الصرخات والآهات التي تسببت بها لأمي. صرخت ومع كل ذلك الأسى الذي كنت أكنُّ به لأمي لم يفهم أحدٌ ما عجزي واستمروا بقطع حبل الوصال بيني وبينها وأخذوا بي بعيدا ً عن أمي فلم أتمكن من الطبطبة ِعلى وجهها لأشكرها ولا حتّى لأعتذر منها, ووضعوني في حاضنة اصطناعية ملؤها الأكسجين, الدفئ والضوء ولم يعلموا بأن َّ موضعي َ الأصلي ُّ هو في حضن أمي, وأن حنان الدنيا ما كان ليأتيني إلا بين راحتيها وما كنت لأعيش َ يوما ً إلا على أنفاسها, وبت ُّ هناك َ منتظرا ً بهدوءٍ لحظة استيقاظ أمي وفقدناها لأثر إيقاع نبض قلبي لتطلب َ رؤيتي ولتنادي عليَّ  وللمرَّة الأولى خارج جوفها ” ولدي ” إلى أن استيقظت فعلا ً وأشرقت شمس دنياي التي أيقنت حينها بأنها لن تشرق يوما الا من عيني أمي, وحملتني بين كفّتيها الدافئتين ِ رغما ً عن كل ِّ ما عانت به من أجل ولادتي, وأخذت تقبلني قبلات ٍ رقيقة ٍ ملؤها الحب والرضا, وأخذت دمعاتها تترقرق ُ على وجهي بخفة مثل نسيم ٍ خفيف يداعب سطح المروج الخضراء اليانعة في فصل الربيع, وعند تلك اللحظة التي شدّت بها ضعفي إلى صدرها إلى جانب قلبها لتشعِـرَني بأنني ما زلت ُ أقبع في موطني وإن خرجت ُ منها فأنا منها وإليها, حينها لم أشعر إلا بأنني أحب هذا الموطن أكثر من أي شيءٍ في حياتي وأنني سأعلن ُ دوما ً إنتمائي إليه رغما ً عن كل ما سيحل ُّ بي!!

 

وها أنا ذا أكبر ُ يوما ً بعد يوم ٍ أمام ناظري أمي, دفئهـا وحنانها وأُشهد ُ الله بأنني ارتويت من حبّها حدّا ً لن أضمـأ بعده إلى حب ِّ أحد ٍ آخر غيرها أبدا ً. ومهما جازفت في عدم إزعاجها فلم يكن بإستطاعتي أن لا أناديها كل فترة ٍ وجيزة ٍ لتبقى بالقرب منّي وليبقى ظلّها درعا ً واقيا ً لي, لربمّـا كنت أزعجها ببكائي المتكرر ولكنها كانت الطريقة الوحيدة حتى يعلوا بها صوتي لتسمعني؛ كنت أحب دندنتها وأعشق صوتها حتى الهيام, خوفها عليَّ وخوفي عليها من أن تبتعد َ عنّي, وحرصها الجميل على أن لا أتأذى أبدا ً كما لو كنت ُ متكورا ً في جوفها, كنت وكبرت وما زلت أحب تلك المشاعر منها والتي لم تفارقني أبدا ً حتّى بعد ذهابها وابتعاد ناظريها عنّي.

 

من أمـي تعلّمت ُ التضحية في سبيل من نحب؛ فذلك السهر الذي كانت تُجازف به من أجل راحتي وسلامتي, وقلّة نومها وشحوب لون وجهها وإنتفاخ جفني عيناها كل هذا ما كانت لتقوم به إلا من أجلي! من أجل ِ نبض ٍ أحبّت سماعه ُ كل َّ يوم ٍ في كل ِّ لحظة ٍ وثانية, وتأبى بأن تعيش َ يوما ً ما فكرة ً سعيدة ً بدونه؛ فهو يعني لها جمال ما في الماضي وإشراقة ما في المستقبل.

من أمـي تعلّمت ُ كيف لي أن أحيا بحب؟ وأن أنبض َ بحب؟ وأن أضخ َّ الحبّ الذي منحني إيّاه خالقي كجدول ِ حياة ٍ يسري في داخلي إلى دواخل آخرين وبكل صدق.

من أمـي تعلّمت ُ كيف للأمل ِ أن يولد َ من جوف َ الألم, وكيف أن الأمور التي قد تبدوا مؤلمة ً أو مخيفة غالبا ً ما تكون نعمة ً مغلّفة ً على شكل نقمة, وعندما تبدوا الأمور جيدة, فقد تكون ضارة ً على المدى البعيد.

من أمـي تعلّمت ُ أن َّ ألم النهايات يخلق جمال بدايات ٍ أخرى؛ فهي عندما أنجبتني وتألمت لولادتي خُلقت ُ أنا وكنت ُ بداية ً جديدة ً أجمل في حياتها.

 

رحت ُ أكبر ُ يوما ً بعد يوم, موقفا ً بعد موقف, وصدمة ً بالعالم الفارغ تلو الصدمة!!

راحت الظروف ومتطلبات الحياة تأنـى بي عن وجه أمي وتبعدني عنها, مانعة ً إيّاي َ من أن أكون بجانبها طيلة الوقت؛ ومن هناك تعلّمت معنى الإشتياق!! ومن كل لحظة كنت أودع بها أمي انبثّ في وجداني معنى لوعة الفراق!! ولطالما كان في داخلي صوت ٌ يتردد صداه في أزّقة قلبي مخاطبا ً روح َ أمي: أنا كنت حيث أريد أن أكون يا أمي, وكل ما أحتاج إليه هو البقاء في قلبك موطني وموطىء نبضي الأول وعمري. 

لم أكن أعلم بأن ّ العمر الذي كانت تُصـارع به أمي من أجلي سيكون فيه هكذا ألم ٌ بإبتعادي عنها! لم أكن أعلم بأن قلبي سيذوب ُ هكذا توقا ً إلى كلمة ” بنيَّ ” منها! لم أكن أعلم ما كان سيحل ُّ بي اعتصار ٍ للألم في فؤادي بفراقي عنها وحاجتي للقائها والتكوّر في حضنها بين راحتيها في أقرب فرصة؛ فهي #فرحتي ودنياي َ وعالمي, بإستيقاظها كانت تشرق شمس يومي وبنومها كانت تحل علي َّ بقمر ٍ يضيء وحشة الظلام في داخلي, كانت تضمني بحب ٍ وكأنها امتلكت ثروة الدنيا أجمع فقد كانت تراني ثروتها وكانت تتكلم معي بكلمات سرمدية ٍ تزرع بها الطمأنينة في روحي, وكنت كلّما رأيتها تُناظرني بود ٍّ أشعر وكأن حقولا ً من زهر النرجس والياسمين والتوليب تتفتح في حنايا قلبي, وكانت روحي المرهفة بحبها تحلّق في سمائها ذي اللون الارجواني الساحر وكأن الدنيا برمّتها تتمركز في عينيها منتهية عن الدوران في محور جاذبيتها.

 

وذات َ ليلة ٍ لا أعلمُ صحيح وصفها أهي َ مؤسفة ٌ أم ليلة من ليالي العُمـر, وبينما أنا في حضن أمي وتداعب هي برفق ٍ خصلات شعري, همهمت أمي بصوتها النديِّ في أذني: لقد كبرت َ يا ولدي وآن لك بأن تعلم عن حال هذه الدنيا أمرا ً ما مؤلما ً لا يقوى عليه أحد ٌ من البشر حتّى أنت وأنا, فقاطعتها قائلا ً ولكنك ِ لست ببشر ٍ يا أمي فأنت ِ ملاك ٌ جميل! همهمت مجددا ً نعم, نعم يا صغيري وسأظل ُّ بإذن الله ملاكا ً لا يفارقك وإن ابتعدت عنك أو أخذَتُ منك موطنك َ في قلبي, ولكنه أمر ٌ لا تقوى عليه لا الملائكة ولا البشر يا بني؛ فالدنيا تأخذنا من أنفسنا وتأخذ من أنفسنا أحبّ الناس إليها. ومع الأسف يا قرَّة عيني ونورها فنحن ُ عاجزين َ إلى درجة أن نفقه متى وأين وماهية الطريقة التي سنؤخذ بها بغتة ً من أحبابنا, فكل شيء يتقدّم برويّة خطوة ً مُختلِسة ً تلو الخطوة حتى لا نشعر عليه ليباغتنا في أشد اللحظات التي لم نتخيل وصوله بها إلينا. كانت هذه هي المرّة الأولى التي شعرت ُ بألم ٍ تنتشي أواصره ُ في في صدري وكأن شيئا ً ما من الخوف تلتف ُّ حباله بقسوة ٍ حول عنقي وهي تكلّمني أمي, لم أفقه حقيقة كل ِّ ما ترنمّت به من حقائق ولكنّي شعرت بأن لنبرة ما قالته لي شيئا ما يشي بالحزن والعجز وكأنها كانت تخبرني به رغما ً عنها وبدا لي قلبها يجاهد بنبضاته لإخراجه حتّى أنني شعرت بحرارة أنفاسها المتسارعة على غير العادة وهي تحط رحالها على وجهي, كان صوتها وكعادته آسرٌ ومؤثر إلا أنه وفي حجرجته تصدّع ٌ لم تقوى على عدم إظهاره. أوقفت ُ شلّال الأفكار في رأسي وسألت ُ أمي أن تُكمل لي كلامها ولكنّها أبت بأن تنهي ذلك الحوار الأخير بقبلة ٍ ملؤها الحب والحزن فطبعت على جبيني قبلة الوداع وقالت لي بصوت ٍ ذي حجرجة ٍ صمّاء: يكفي لهذا اليوم يا صغيري, هيّا اخلد إلى النوم بسلام ٍ يا ملاكي, أستودعك َ في حفظ ورعاية الرحمن. زاد َ إنتشاء الألم في في قلبي بعد َ قُبلتِها وشيءٌ ما دفعني إلى إلى تقبيلها قبلة ً تُعادل جمال قبلتها, قبلة ً حنونة ً لعلّها تُشعرها بالأمـآن في ظل ِّ ذلك الخوف والحزن الذي كان يغمر قلبها ويا ليتني كنت ُ أعلم ُ بأنهـا اللحظات الأخيرة المُقدّر ِ لي عيشها مع أمي؛ لكنت أصررت على النوم في حضنها والإستماع إلى نبضات قلبها, يا ليتني كنت ُ أعلم ُ بأنني سأفقد موطِني وموطئ نبضي لكنت ُ تمّسكت به حتّـى آخر لحظات زوالي بزواله.

 

في صباح ِ اليوم ِ التالي وعندما كان الفجـر قد محا ما تبّقى لي من الليلة السابقة حتّـى نبض أمي, وتناهت إلى مسامعي أصوات صرير الأبواب في منزلنا, قدِم َ إليَّ أبي الذي لم أسرِد تفاصيل وجوده في حياتي إلا أنه ومع كثير انشغالاته كان َ الدِرع الحامي والقوقعة المتماسكة التي تضمني أنا وأمي. رأيت ُ لطافة ً وقلقلا ً يرتسمان ِ على وجهه, وشيئا ً آخر يُشبه حنانا ً أموميا ً, كسر أبي حاجز الصمت في ملامحي وقال لي بصوت خافت: صباح الخير يا ولدي, صباح الخير أبي, ما بك لا تبدوا لي بخير! أألم ّ بك مرض ٌ ما مجددا ً ؟ لا يا بني قال أبي, فخاطبته ُ متوسلا ً: إذا ً أين أمي؟ أهي في محرابها تصلي؟ أم أنها تعد لنا فطورا ً شهيّا ً لنتناوله معها قبل أن نمضي؟! أتعلم يا أبي: أنا أفكر في أن نبقى هذا اليوم إلى جانب أمي وأن لا نفارقها؛ فقد شعرت ُ البارحة بأنها حزينة حزنا ً لم أجد له تفسير ٌ طيلة الليلة الماضية وكأن هناك شيئا ً ما يُقلقها علي لم أعلم ما هو! ما رأيك هل توافقني الرأي؟ هيّا اعتذر من رئيسك في العمل واتصّل بمعلّمي وخذ منه إذنا ً لعدم ذهابي اليوم َ إلى المدرسة. وطوال فترة ثرثرتي لم أُدْرك بأن َّ أبي كان مُتسمّرا ً في مكانه لا يتحرك ولا يكاد ُ يرّف ُ له جفن, ما أذكره ُ أن أبي بصمته ِ كان يُخيفني؛ فأنا لم أره ُ بمثل هذا الحال أبدا ً, تقدّم َ إليَّ ووضع يديه المُثقلَتان ِ على كتفي َّ وأحسست ُ بالثقل ِ فيهما وكأنه يُثبتهما وقال: خذ يا بني هذه رسالة ٌ لك من أمك.

 

تعجبت ُّ وسقطت من عيني أبي دموعا ً تغلي كالجمر على يدي! ويا لتلك الدموع التي كانت تتهاوى من عيني أبي وكأنها تتهاوى من سفح جبل ٍ عال ٍ ومتين؛ فقد كانت حارّة ً تُشبه ُ بهشاشتها المتأججة تصدّع قلب أمي ليلة البارحة وهي تتحدّث إليَّ, وقلت مهمهما ً رسالة!! لم َ الرسالة!! أين ذهبت أمي حتى تكتب لي رسالة؟! وبضمّة أبي لي إلى صدْره ِ وبكائه ِ على ظهري أيقنت ُ بأن َّ الأمور َ الأشد ألما ً والتي أخبرتني عنها أمي قد داهمت منزلنا واقتلعت قلب َ أبي لتستقر ّ في قلبي, ذاب َ قلبي بإستقرارها فيه فأزحت ُ بأبي عنّي وبلا وعي ٍ ذهبت ُ إلى غرفة أمي وناديتها بصوت لا يريد تصديق َ خوفه, صوت ٌ ملئه الرجاء بأن يجد َ له في صدىً في موطنه ِ, ولكن َّ أمي بقيت ساكنة دون أدنى نبض ٍ ولم تجبني! أمسكت ُ يدها فكانت باردة جدّا ً على غير عادة ٍ منها؛ فيدي أمي كانتا مصدر الدفىء لي ولأبي, كانت عيناها هامدتان وكأنهما تحملان ثقل العالم كله عليهما فلا تقوى على فتحهما, هممت ُ أُقبّلها حتى تستيقظ وتضمني كعادتها إلى حضنها, فلم تفعل!!  ظننتها تُمازحني فقلت لها بصوت مسكين أشج ٍ أن قد سئمت ُ من هذه اللعبة فاستيقظي, ولكنّها لم تكن لتستمع إلي!! ضممت نفسي إليها فلم أسمع إيقاع نبضها الحنون! قلت لها: أمي! ما به ِ قلبك ِ لا ينبض؟ فلم تجبني! والسماء الأرجوانية التي كانت تحلق بها روحي عند رؤيتها كانت وكأنها قد تجلّت في ابتسامتها, قبّلت ُ جبينها فلم أشعر بنسيم روحها يداعب وجهي فأخذت بالبكاء في حضنها وبكيت ُ من ألم الفراق وقد استوت بي لوعته ُ بذهاب أمي. ففارقتني أمي, وسُلِب مني موطني وفارقت موطئ نبضي رغما ً عنّي وأخذوا مني أمي بعيدا ً عنّي ولم أكن أعلم بأنني سأعايش مرارة هذا الشعور مرّة ً أخرى منذ أن فارقوني عنها عند ولادتي.

 

لطالما كنت أرى وجه أمي وهو مشرق ٌ متفتَّح ٌ بأجمل أنواع الورود, ولطالما أفاضت علينا من عبير الود ِّ بإبتسامتها, وكم هي المرّات التي رأيت ُ فيه شموخها يتجلّى أمام أعيننا مهما أحل ّبنا من ألم, ولكنني لا أنسى أبدا ً كيف بدت هيأتها في آخر ليلة ٍ لنا معها هي َ وأبي وكيف كانت تحمل مخاوفها وأفكارها على كتفيها, وكم كان هذا الأمر الذي أرهقها يخنق جمال مُحيّاها.

ليتني كنت أفقه ُ حقيقة عجزها وصمتها الصارخ في جوفها, ليتني كنت أفقهه ُ كما كانت تفقه ُ حقيقته هي َ! ويا ليتها لم تخبرني به حتّى وأخذتني معها من دون مقدّمات ولم تسلب منّي موطني! ولكنّها اعتذرت مني بطرقة أخرى قبل ذهابها, طريقة ٍ لم أفهمها عندما قالت لي: ” نعم يا صغيري وسأظل ُّ بإذن الله لك ملاكا ً لا يفارقك وإن ابتعدت عنك أو أخذَت منك موطنك َ في قلبي ” وكأنها كانت تعلم بإقتراب أجلها وإنتهاء تذكرتها للمكوث ِ في هذه الدنيا, وكـأنها كانت متيقنّة ً بأنها لن تستطيع درئ هذا الأمر عنها.

بقلم: رنـا مروان – ( الأردن )


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com