اِستيقظت اليوم باكراً على غير عادتي، أنعشت صوت فيروز وبدأت بإعداد كوبٍ من القهوة، لكن لسوء حظي قهوتي نفذت، أطفأت النار وأنا أتمتم لا بأس سوف أُحضر كمية أكبر حين عودتي، امتلأَ باطنُ يدي ببعضِ الغبار المشبع بالرطوبة حين مسحت الزجاج، لمحتها فجأة، وهالني مارأيت أنا المقيم هنا منذ عشرة سنوات كأنني لم أراها قبل الآن. تقبعُ على سفحِ قاسيون، تمدُ على جانبيه أذرع من العشوائيات، تحاول التمسك به.
ذلك المظهر أثار في نفسي عشقاً كامناً، قررت أن أجوب شوارعها اليوم في رحلةٍ صغيرة، علَّها تُنقذني من براثن الوحدة الأثمة، و لن أحتاج في رحلتي هذه أكثر من دفتر صغير وقلم لتدوين بعض التفاصيل لا أكثر؛ لأغرق في زُحامها مرةً و إلى الأبد.
في البداية قررتُ المرور بجانب كُليتي التي استنفذت أربع سنوات من عمري، ولم أحظى منها سوى على ورقةٍ تفيدُ تخرجي. و لم تؤمن لي أيّ عمل أقتات منه إلى الآن. وبعد خمس سنوات يسترعي اِنتباهي شخصٌ لا أذكر أنني رأيتهُ هنا من قبل، أو أن ضجيج الماضي حرمني رؤية هذه التفاصيل، وأيُّ تفاصيلٍ تلك وأيُّ عشق يرنو إليّ من ثنايا جدرانها. كان يفترش الأرض ببعض الكتب و إلى جانبه مذياع صغير يصدحُ بنشرة الأخبار الصباحية، يُضفي صوته على المكان جواً من الكآبة، لمحت روايتي المفضلة “الحب في زمن الكوليرا” تتوسط مجموعة من الروايات لنفس الكاتب، لابُد لي أن أتوقف لبعضِ الوقت، همستُ لنفسي مشجعاً، فمنذُ فترة بعيدة لم أقتني كتاباً، لأنني بِعتُ كُلَّ ما أملك منها، كي أُكمل إيجار غرفتي التي يقطُر سقفها بؤساً كل يوم، كونها تتوسطُ سطح مملوء بالأسلاك و أشرطة الإرسال، يؤنسني صوت اِحتكاكها حين تهب الرياح في كل ليلة.
ناديتُ صاحب الكتب، و طلبت منه الجلوس قليلاً؛ لتصفح بعض الكتب، نظر لي باِستغراب كأنه يقول ماهذا الهُراء الذي يطلبه هل يظن أنه في باريس !! أخذتني أفكاري بعيداً، حينها ناداني وجلب لي كرسياً لأجلس، ثم قال بصوتٍ يرتجف أن اليوم هو أخر أيامه هنا فلم يبقى بمكتبته أيّ كُتب ليقوم ببيعها سوى هذه المعروضة هنا، أخبرني أنه باع معظم كتبه لسداد بعض الديون، والمبلغ الذي يصبو لجمعه أكتمل، و عرض عليّ أخذ خمساً منها دون مقابل، لم اتمالك نفسي وضممته إلى صدري فامتزجت دموعي بلحيته وقبلتُ رأسه، أخذت الكتب وذهبت قاصداً المسجد الأموي.
وصلت، وما إن دخلت في بداية السوق الذي ينتهي ببوابةِ المسجد حتى غرقت في الزُحام مجدداً، بين بائع يحاول جذب النساء إلى دُكانه، وشاب جامعيٌّ يفترش الأرض ببعضِ اللُعب، و في السقف بعض الحمام يترنح في الزوايا المظلمة تطير من مكان لآخر بحثاً عن قليل من الضوء، تمشيتُ إلى آخرِ السوق أُجيلُ طرفي يميناً وشمالاً، لم يتسنى لي رؤية هذه التفاصيل مسبقاً، رُبّما مررتُ بها كثيراً ولم أشعر بعظمتها سوى الآن، انتهكتُ حرمة التفاصيل، وحان الوقت لتشكل في ذاكرتي هاجساً لا يمكنني التخلص منه.
تعتادُ هنا على الضجة ليصير الهدوء طقساً غريباً، بدأت أشعر بالأعياء من كثرة الزحام، صارت الرؤية ظلامية، ذلك قبل خروجي من تحت السقف العتيق، وأخيراً بدأ الهواء يتدفق في صدري، انكفئت على نفسي في زاويةٍ فارغة لأرتاح قليلاً. حينها اِتنشلني صوت أذان الظهر من دوامة الأنفعالات تلك. ذلك أنني منذ مدة لم أنصت لكلمات الأذان كما أنصت الآن.
توقفتُ ونفضت التراب المليئ بحبات الذرة، وقصدتُ المسجد لأداء الصلاة، اِنتهيت من الصلاة وجلستُ في باحة المسجد أحاول لملمة بعض التفاصيل الجديدة نسبياً، أقوم بعملية غسلٍ لذاكرتي أزيلُ بعض الخردة والهواء الملوث وبعض الشتائم؛ لأضيفَ تفاصيل كثيرة اِنشغلت عن إدراكها لأسباب عدة. خرجتُ من المسجد لا ألوي على شيء تركتُ خطواتي تنجر وراء جاذبية الشوارع وفتنة الأزقة، حينها قررت الصعود إلى قاسيون لأمضي بقية اليوم هناك، قادتني كُلَّ الظروف إلى هناك وكأن قدر ما ينتظرني في الأعلى، في لمح البصر أوقفتُ سيارة أجرة، وبدأت رحلتي الفرعية، لكن لم يستطيع إكمال الطريق خوفاً من الإنزلاق، نزلت و سلكت طريقاً فرعي، وصلت إلى شارع ضيق يُطل من أحد جانبيه على قاع المدينة الذي خرجت من أحشائها للتو، ومن الجانب الأخر صخور اِستحالت جدران طليت بالكتابات والرسوم، اِقتربت من أحد الزوايا، وضعت الكتب والوشاح جانباً ومن ثم خلعت ثيابي، لأبقى عارياً يداعبني هوائها كما يشاء، أخذت من دمشق اليوم مايكفيني للأبد، وددتُ ألا يكون هناك مايدعو لغيبوبةٍ أخرى، لذا قررت أن أجعل مني قرباناً يبقيها إلى الأبد.
بقلم: مجد الشيخة – ( سوريا )