حوار: شيرين فريد
لا يرى كريستوفر جينيتا الموسيقى مجرد نغماتٍ متتابعة، بل حياةً تُعاش بين الشهيق والزفير، بين الصمت والدهشة. هو واحد من أولئك العازفين الذين يؤمنون أن الفن لا يُقدَّم من فوق المسرح فحسب، بل يُبنى في عمق التجربة الإنسانية، في الإصغاء، والانضباط، والتواصل غير المنطوق بين الأرواح.
من موقعه كعازفٍ رئيسي لآلة الفلوت في أوركسترا البحرين الفيلهارمونية، يحمل جينيتا رؤيةً ناضجة لدور الموسيقي في تشكيل الوعي الجمالي، وصناعة لحظةٍ من الانسجام النادر بين الفنان والجمهور. في هذا الحوار، يأخذنا إلى كواليس الأداء، وإلى ما بعد الصمت، حيث تبدأ الموسيقى في التجلّي الحقيقي داخل القلب والذاكرة.
س: كيف تصف شعورك بعد انتهاء العرض مباشرة، عندما تخفت النغمة الأخيرة وتغمر القاعة لحظة الصمت؟
ج: إن كونك عضوًا في أوركسترا بعد الأداء الناجح يعد تجربة مبهجة للغاية. الهواء يكون مشحونًا بمزيج من الأدرينالين والرضا، يمكن أن تلمسه في أصداء الموسيقى التي جلبناها للتو إلى الحياة. وعندما نقف معًا على المسرح، هناك إحساس مشترك بالإنجاز — اعتراف صامت بساعات التدريب التي لا تُحصى، وبالجهد الجماعي الذي بلغ ذروته في تلك اللحظة من السحر الموسيقي.
س: ماذا يحدث في تلك الثواني التي تسبق تصفيق الجمهور؟
ج: تستقر عصا القائد للحظات، وتتدلّى نغماتنا الأخيرة في الهواء قبل أن تتلاشى تمامًا. ثم ينفجر التصفيق فجأة، كأن القاعة تستيقظ من حلم جميل. إنها لحظة عارمة من التقدير؛ تشعر فيها بأن كل جهد وكل تعب لم يذهب سدى. كل تصفيق هو شهادة على الارتباط العاطفي الذي بنيناه مع الجمهور خلال أدائنا، وهو تذكير بالتأثير العميق الذي يمكن أن تُحدثه الموسيقى في الناس وفي أنفسنا نحن أيضًا.
س: كيف تصف العلاقة بين أعضاء الأوركسترا بعد انتهاء العرض؟
ج: خارج المسرح، هناك ضجة من الصداقة الحقيقية. نهنئ بعضنا البعض، نتبادل الابتسامات، ونتحدث بإيجاز عن أدائنا. إنها لحظة وحدة وانسجام بشري — نحن لا نحتفل فقط بعزفنا الفردي، بل بالتمازج الجماعي الذي سمح لنا بخلق شيء أكبر من مجموع أجزائه. فالأوركسترا ليست مجرد مجموعة من العازفين، بل كائن حيّ يتنفس ويتطور ويشعر.
س: بعد كل هذا، كيف تنظر إلى معنى أن تكون عضوًا في أوركسترا بهذا المستوى؟
ج: أن تكون جزءًا من أوركسترا لا يعني فقط عزف الموسيقى؛ بل أن تكون جزءًا من كيان حيّ يتواصل مع الناس، يُلهمهم ويحرك مشاعرهم. الأمر يتعلق بالسعي المستمر نحو التميّز، وباكتشاف الجمال في الانسجام الذي نصنعه معًا. هناك دائمًا تواضع خلف كل نجاح، لأننا ندرك أن الغد يحمل تحديات جديدة، ومقطوعات جديدة، وجمهورًا جديدًا علينا أن نأسره من جديد.
س: ما الذي يبقى معك بعد انتهاء العرض؟
ج: يبقى شعورٌ عميق بالرضا والامتنان. وسط كل التعب والنشوة، أجد نفسي ممتنًا لأنني أعيش داخل هذا العالم الساحر، عالم الأصوات التي تتجاوز اللغة، وتخاطب ما هو أعمق من الكلام.
في حديثه، يُظهر كريستوفر جينيتا أن الموسيقى ليست مهنة، بل طريقة وجود. فبين أنفاس الفلوت وصمت القاعة، يعيش الفنان لحظة صدق نادرة لا تتكرر إلا فوق خشبة المسرح، حيث تتحول الأنغام إلى حياة، والصوت إلى معنى.
حوارات شيرين فريد مع عازفين أوركسترا البحرين الفيلهارمونية، تسلط الضوء على رحلة الفنانين وتجربة الموسيقى الحية في قلب الخليج.



(
(





