بقلم / المستشار الدكتور : أحمد فريد
حين دوّت صيحات الغضب في شوارع باريس عام 1789، لم يكن الفرنسيون يدركون أنهم لا يطيحون بملكٍ فحسب، بل يهدمون نظاماً اجتماعياً كاملاً ليفسحوا المجال لولادة عالم جديد، كانت الثورة الفرنسية في جوهرها لحظة ميلادٍ للحرية، ولصوت الشعب، ولانتصار طبقةٍ ظلت طويلاً على هامش السلطة، هي البرجوازية، التي ستصبح منذ ذلك الحين صاحبة الكلمة العليا في تشكيل ملامح العصر الحديث.
نشأت البرجوازية في رحم المدن الأوروبية خلال العصور الوسطى، حين بدأ التجار وأصحاب الحرف والممولون يكدّسون الثروات بعيداً عن أراضي الإقطاعيين وسلطان الكنيسة، كانت طبقة تعمل بعقلٍ ومنطق، لا بشرف النسب ولا ببركة المولد، ورغم ازدهارها الاقتصادي، ظلت محرومة من الحقوق السياسية التي احتكرها النبلاء، حتى تحوّل هذا الحرمان إلى شعلةٍ فكرية غذّتها أفكار فلاسفة التنوير، فولتير وروسو ومونتسكيو، الذين بشّروا بعصر العقل والمساواة والحرية.
حين اندلعت الثورة، كانت البرجوازية أكثر الطبقات استعداداً لقيادة التغيير، فهي تمتلك المال، والثقافة، والقدرة على التنظيم، والأهم أنها تمتلك مشروعاً واضحاً : إنهاء الامتيازات الطبقية، وفتح المجال أمام الكفاءة والملكية الفردية، وبناء دولة القانون، لم تكن الثورة مجرد ثورة جياع، بل كانت ثورة طموحين أرادوا أن يحكموا العالم بالعقل لا بالسيف، وبالعقد لا بالوراثة.
من هنا جاء الطابع المزدوج للثورة الفرنسية: شعبية في مظهرها، برجوازية في جوهرها، فبينما كان الفقراء يهتفون للخبز والحرية، كانت البرجوازية تصوغ خلف الكواليس مبادئ الاقتصاد الحر والدستور الحديث، لتؤسس لمجتمع جديد يقوم على المنافسة لا على الامتياز، وعلى الحقوق لا على النسب.
بعد سقوط الباستيل وانهيار النظام الملكي، لم تعد فرنسا كما كانت، دخلت البلاد عصراً جديداً تحكمه القوانين لا الامتيازات، والملكية الخاصة لا الإقطاع، هنا وُلدت الدولة الحديثة بمفهومها الليبرالي : دولة تحمي الفرد، وتكفل حرية العمل، وتفصل بين السلطات.
كانت هذه هي لحظة تتويج البرجوازية، التي أصبحت سيدة الموقف، فباسم الحرية أقامت نظاماً يخدم رؤيتها الاقتصادية والسياسية، وفرضت قيمها في كل شيء: من المدرسة إلى المصنع، ومن البرلمان إلى الصحافة. لم تعد الثروة تُورَّث من لقبٍ نبيل، بل تُكتسب بالجهد والمعرفة والمخاطرة.
أطلقت البرجوازية روحاً جديدة في الحياة الأوروبية : روح الاجتهاد، والانضباط، والعقلانية، والإيمان بالتقدم، لم تعد الكنيسة تملك الكلمة الأخيرة في الفكر، ولا القصر يملك الكلمة الأخيرة في السياسة، أصبحت العقلانية هي الدين الجديد، والحرية الفردية هي العقيدة الجديدة.
ومع الثورة الصناعية، وجدت البرجوازية مسرحها الطبيعي، فالمصانع والبنوك والشركات الكبرى لم تكن سوى تجسيد مادي لعقلها العملي ونظامها الإنتاجي، أصبحت هي الطبقة القائدة للعالم الحديث، تملي سياساته وتعيد صياغة قيمه.
لكن التاريخ لا يكتب فصوله بلونٍ واحد، فكما كانت البرجوازية قوة تحرير، صارت بعد حين قوة هيمنة. ومع تراكم الثروات، تحوّلت من طبقة طموحة إلى طبقة محافظة، تخشى التغيير الذي كانت تنادي به بالأمس، ومع القرن التاسع عشر، بدأت تظهر أصوات جديدة تتحدّى سلطانها: العمال، والمفكرون الاشتراكيون، والثوار الذين رأوا أن الحرية الاقتصادية التي بشّرت بها البرجوازية لم تجلب العدالة الاجتماعية، بل فتحت الباب لظلمٍ جديد باسم السوق.
لقد غيّرت الثورة الفرنسية وجه العالم، لكن البرجوازية هي التي رسمت ملامحه، فهي التي نقلت أوروبا من عصر الامتياز إلى عصر الاستحقاق، ومن سلطة النسب إلى سلطة العقل، ومن حكم الملوك إلى حكم القانون، ومع كل التناقضات التي حملتها، تظل البرجوازية الابنة الشرعية للثورة الفرنسية، والأم التي أنجبت الدولة الحديثة، والعقل الذي صاغ فكرة الحرية كما نعرفها اليوم.
إنها الطبقة التي صنعت الحداثة، لكنها في الوقت ذاته منحت التاريخ مادةً لا تنتهي للتأمل : فكل ثورة، في النهاية تبدأ باسم الشعب وتنتهي على أيدي من يجيدون إدارة السلطة.



(
(





