|  آخر تحديث مايو 21, 2018 , 2:18 ص

#رنا_مروان | تكتب: “تذكرة سفر”


#رنا_مروان | تكتب: “تذكرة سفر”



تسيرُ الحياة بمجرياتها المتعددةِ الأشكالِ والأوصاف في سبيلِ طريقٍ مستقيم، تُلوِّعُ قلوبنا من الحزن تارة، وتضيقُ في دواخلنا الصغيرة من فرط السعادة تارةً أخرى، تُجبرنا على فعل أشياءَ لا نرغبها، وتُكرهُنا بين الفينة والأخرى على ما لا نُحب، مهما استوقفتنا، ومهما ضاقت بنا لنكرَهَ فحوى الحياة فيها يبقى ذلك الطريق الذي رسمته لنا فيها طريقاً مستقيماً، وإن كثرَتْ فيه العثرات أو تهافتت علينا فيه المسرَّات، إلى أن تجيء تذكرة السفَرْ .
تجيء تذكرة السفرِ على عُجالَه، مهما سبق لنا من أجلها التخطيط والترتيب، على قارعة الطريق هُناك من على بعد أيامٍ أو عشراتِ الأسابيع، لافتةٌ زرقاء كُتِبَ عليها بخطٍّ كبيرٍ نسبياً: أي توقّف، إنه موعدُ السفر!! سواءٌ لاحتْ لكَ هذه اللافتة من على بعد يومٍ أو حتّى سنَة، يبقى ذلك الموعدُ موعداً ثابتاً لا يتجدد، لا تُرهقه دموع الوداع ولا لوعة الفراق ولا حتّى عبراتٌ دافئة من قلبِ أمٌ حنون .
تماماً كمُتسابِق ٍ تلوحُ له عارضة القفز من على بُعدِ أميال، يركضُ نحوها وهو يعلم تمام العِلم بأن تلك العارضة تتطلب منه القفز لإجتيازها والدخول من جديد ضمنَ حدود ذلك الخطِّ المستقيم الذي يسير فيه طمعاً بالجائزة، أو ربمّا أملاً بإجتيازها لا غير؛ يبتدىءُ المتسابق بروحٍ شجاعة تطمحُ لنيل الجائزة، هذا لا شكَّ فيه، ولكن مما لا شكَّ فيه أيضاً أنّ لحظة القفز في الهواء لتجاوز تلك العارضة لا تحملُ إلا أملَ ملامسة الأرض بسلامٍ من جديد أو حتّى العودَة إلى نقطة الإنطلاق وعدم إختيار هذا الطريق إطلاقاً متناسياً ذلك المغامر ماهية الجائزة .
تماماً كتذكرة السفَر؛ تلوح في الأفق مثل عارضة ذلك المتسابق، نسيرُ بإتجاهها بروحٍ مفعمَة ٍ بالسعادة أولاً ثمَّ لا نلبث أن تلوحَ لنا من بُعِد أيام حتّى نودُّ الحياد عن ذلك الطريق وعدمَ وصولها إطلاقاً، نتمنّى لو لا يمرُّ ذلك الوقت المتاحِ لنا على أرض اليابسة بسرعَة، أن لا يسمحَ لنا بالمغادَرَة، ولكنّ ذلك الوقت يأبى بأن يستأنِفَ المسير ويستمرُّ على ذات الوتيرَة، تمرُّ الدقيقة في دواخلنا بلوعتها عن ألف ساعَة، نرى ذات الدقيقة لا تكاد تجتاز ملامحَ قلوبٍ أحببناها بشدَّة لترهقها، وذات الدقيقة لا نكاد نلمسُ لها أثراً لسرعتها على أرض الواقِع، آخذةً بأجسادنا للوقوف عند تلك اللافتة، متناسينَ تلك الشجاعة التي أقدمنا بها إلى ذلك الطريق متمنين عدم الإقلاع .
يمرُّ الوقت ويجري مُسرعاً سرعةَ الرياح العاصفَة، ويبدأ العدُّ التنازلي للساعات، اثنتا عشرة ساعَة!! وغداً في ذات الوقتِ ستحملُ جوارحك الطائرَة، قلوبٌ كثيرة ترغبُ في وداعها، وملامِحُ أكثر ترغبُ في حفظها واستوداعها في حقيبةٍ لكَ على متنِ الطائرة، تعيشُ وسِطَ من تحبُّ من أهلك بروحٍ هائمة، الجسدُ يُكابِرُ والروح تحومُ الدنيا باكية، تودُّ لو أنك تحتفظ بجزءٍ من إبتسامَة والدتك، أو حتّى قسمٍ من حنيَّة حضنها وحنانها، لا تُصدِّق نفسَك؛ وإذ بكَ ترغب في حفظ أصوات أخوانك وهم يتسامرون، يتعاركون ربماً أو حتّى إياكَ يُحدِّثون .
الساعاتُ الأخيرة تجيىءُ حافلَةً بالوجوه، بالملامح الفيّاضة بدموع الوداع، الكثير من التصافح والكثير الكثير أيضاً من الدموع من جديد. مشاعر مُختلفة، تكاد الثواني لا تمضي في داخلك وداخلك يئنِّ من جحيم الفراق ومرارته، تودّ لو تنتهي هذه الثواني بأقصى سرعة ممكنة، بلا وداع مباشرةً على مقعد الطائرة، وتود لو أنها لا تنتهي إطلاقاً لتتنعمّ بما بقي لديك من حبٍّ بملامح والدتك .
الجميع بلا إستثناء، يسترقون إليكَ النظرات، ولكن لا أحد، لا أحد يجرؤ على النظر إليكَ مباشرةً دونَ عكس زاوية النظر فورَ إلتقاء نظراتك بنظراتِهم، أُمك لو تنشغل بما في الدنيا من مشاغل أجمع ولكن دون النظر إلى داخل عينيك وأنت تحادثها، تتمنى حينها لو تُشبَّع بالمآسي ولكن دونَ رؤية ملامح والدتك تشيح بنظراتها عنك!! والدك مُثابر يطمئن على إحتياجاتك وإخوانك يضحكون على دموعك وفي أعينهم تنحسر العبرَات، إنها تذكرة السفر تُطلق صفّارات الإنذار الأخير، هدوءٌ يعمُّ المكان، هدوءٌ تخترقه أسئلة صغار العائلة: أين تذهب أختي يا أبي؟ لماذا أنتم صامتون ؟ ثُمّ لا إجابة وإذ بالجميع لوعة الفراق بالدموع يتحدثون .
تجيء تذكرة السفر مثل عارضة القفز لدى المتسابق، خطوةٌ ستحيد بك عن ذلك الطريق الذي لطالما عهدته مستقيماً لتحملَك السماء في لحظة واحدة بين غيومها، آخدةً بك إلى محطةٍ جديدة يستمر من خلالها ذلك الطريق، دونَ أمك، دونَ أمك، دونَ أمك.
بقلم: رنـا مروان – (الأردن)

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com